جديد الموقع : موجز عن صاحب الموقع  «»   عدنا…و العود أحمد  «»   مهمة في الاطلس المتوسط  «»   معادن الأرواح  «»   البطن الرخو..  «»   خطيئة النون  «»   كتمان  «»   أشواق شامية  «»   الكتاب  «»   شكوى  «»   المزامير  «»   وشاح  «»   حكايا العشيات3 (الجَّبَّابْ)  «»   حكايا العشيات2  «»   حكايا العشيات1  «»   ما لي بمدح المحدَثين يدان  «»   نكزة و تدوينة  «»   ناجي و نخبة موريتانيا و الضاد في صالون الولى  «»   حق الإقامة  «»   أنتِ والزنابق  «»   De La Chaudière  «»   الخطيئة  «»   رشة عطر  «»   إنهم قيادة العالم ولكنهم لا يستحقونها  «»   بيان من جمعية الضاد  «»   نحن و الزمن  «»   بيان عن اليوم العالمي للعربية  «»   بيان حول اليوم العالمي للعربية  «»   الصمت خيانة  «»   قنينة نفد الراح من خصرها  «»  

يناير 22
0

في ميدان “كامبرون “و نهج “غاريبالدي” و علي طول شارع “ميوليس” الممتد منه حبلا

أسود …لا تكاد تري ماشيا ،في هذا المساء الباريسي الماطر..

تغمرك بمعطفها الشتوي  فكأنما أشعلت لك مِدْفَأةً بألف واط  داخل المتحفز بالرغبة المكتومة في العيش الأبدي بين

الأحضان …ليغسل فيها الهمَّ العالقَ من أحزان الشعراء، وشبق العشاق ،ونهم النساك.

إنها عقابيل قرون من  الكبت الخانق و الصمت الشهواني ،و عُمْرٌ يَتَلحَّسُ في أقبية الغرائب ،لا يخرج من

نفــــــــق الذّنْب  إلا ليدخل مغارة الهواجس.. دهراً ممتدّاً ما بين مسائك الشتوي هذا …و بين جلسات المحاكم يوم

النشور…

كان ماحي ينام ماشيا في حضن البارونة …ومِخْيَالُه المفروشُ بالرغبات يُصارعُ عقلَه

المشدودَ  إلي مكابحَ تُوقِفُ فيضانَ النيل عند مساقط  “نياجارا “.. تخورُ كالثيران الإيبيرية الضارية.

يُسِرُّ “ماحي” لنفسه :هذا الصبر الذي تمارسه يا ابن آدم علي القرم اللاهب بما وراء” الديماس”،  يردعُه طبعٌ

متأصلٌ مَرْعِيُّ الإجراء عند هذه النبيلة الشقراء …عجيب أمرُها…تُنظم علائقها بالناس و العاطفة و الحس

و اللمس ……بمنظومة (التصرف اللائق )عندهم .. إنهم النبلاء:طبعة أرستقراطية أوربية تذكر بــ”شيم الزوايا”… ما خَلا

الخرافة و الكرامات و العواطف المنفية و وظائف الجسد المحشور في الإنجاب …

 يسأل”ماحي”..همساً .. المُتَحَلِّلَ بين ضفافها .. و هما يتمشيان تحت المترو الهوائي العابر فوق الميدان الشهير:

– كنتُ  وعدتك  برحلة إلي مواطن أجدادي ، وهذا المساء سأفي بوعدي..

– يا سندباد ..أتعرف كم الساعة…ألا نستطيع النوم إلي غدٍ… ونعاود الحديث ..يا…

-إنها الثانية صباحا..عَلّليني بفَرْوِكِ و واصلي فالميدان قريب …عشرون دقيقة من المشيالوئيد …

نعبر الرصيف إلي ناصية شارع”التجارة” لم يَعُدْ يتحرك في هذا الوقت سوي القطط الباريسية

الأليفة …

ويخفتُ تباعا صوت المطرب اللبناني في مطعم فيروز حيث كنا نتعشي ….. و تقول :كان صوت مطربكم نشازا، لكن

العرق ومشاوي الشام و مشكلاتالمطعم البيروتي ترخِّمُ الصوت مهما بلغ من ولو كان منكراً..

أمام الفندق الصغير..الذي تعوده ماحي منذ سبع سنين .. ندق الباب الزجاجي السميك ..لكن عامل الإستقبال ينام

علي كنبة الصالة الأبعد..طق ..طق ..طقطقطق….تتوالي الطرقات فيقوم الموظف متثائبا مثقل الخطو..

يحدق في الزجاج المتصبب عرقابفعل التدفئة الداخلية والبرد الخارجي..

-قالت ،دون أن تعطي النبرةُ ،مغزي الكلمةِ : وماذا عن أرض أجدادك؟

إنتظري حتي ندخل الغرفة..

إنها واسعة مختارة بعناية السيدة “كحلونه” زوجة صديقي الجزائري الأصل الذي يملك الفندق..

-آنستي إنه فندق برتبة”نقيب” في ترتيب الفنادق (3*** نجمات).. وأهله أهلي..

وكادت تسقط ضحكا من تعبيري بالرتب العسكرية عن الفندق، قبل أن تتجه إلي البراد.. وتقول ضاحكة:

عصائر… عصائر.. فواكه.. شوكولاته… حليب …

ماحي …ألا تشعر …بعضَ الأحيان ،بالحاجة إلي التنويع ؟.. الرتابة في المشروبات كالرتابة في الحب…خانقة…

..ماذا أقول.. أنا فقدتُ “مِقْوَدي” سمحتُ لنفسي بما لا يعنيني…أنا آسفة…بجد آسفة…ربما لأنك لطيف جدا..تجاوزتُ…

و أمسكت بلطف راحتها ومررتُها علي خدي …هذا الكلام يسعدني..يسعدني لأنه يعني الصداقة الحبية…

وبحركة مراهقة تلوي شالها”الهرمس” علي رقبتي و تُوّقع رقصة “سْلو” كأنما تحفظإيقاعها عن ظهر غيبٍ أو “قدم”…

وتعيد …صحيح أنت شاعر والليلة اخترعت تعبيرا غيرمسبوق في اللغة:”الصداقة الحبية” من أين ياتيكم هذا الوحي

الجميــــــــــــــــل؟  أنت أول شاعر أعرفه عن قرب…أنت مختلف…أعد علي..لوسمحتَ قصيدتك كل شيء يمضي!

غدا سأذهب  إلي خطاط يخطها في لوحة مورقة و توقعها لي تذكارا…

-قلتُ: سأبوح لكِ بأمر لا أُحِبُّــه……..

–       ماهو…ضايقتك؟ ويلي……

–       آنستي ….كلاّ ..لم تضايقينني …أنا في غاية السعادة أنا طاووس يختال في جنة العريف يرددُ قصيدة للويس

آراغون في محبوبته “إلسا”..لكن…عندما أكون في قمة النشوة، لا أحب أن يذكرني أحد بالنواقص: فالتذكار  يعني

الغياب.. والغياب نقيض الحضور….

-آ آ ه…ما ألذَّ هذا.. قالت …آراغون هذا شاعري المفضل..نحن علي الأقل متفقان في الشعر؟…

– صديقي حبيا… و ضحكت و تثنت في أريكتها..إنه تعبيرك..

-هل يُعقل أن تحب شعر آراغون في ألسا ولا تشرب؟؟ لماذا كل أبناء عمومتك الليلة يسكرون من العرق اللبناني الثقيل

و أنت صاحٍي..؟؟

–       قال “ماحي” سأترجم لك بيتا من الشعر العربي قاله شاعر توفي قبل ألف سنة:

                أدبُ الشراب إذا المدامة شعشعتْ**في كأسها ألاَّ تكون الصاحي

 قالت: كأن هذا البيت اعتذار منك عن الشراب…هذه المرة الثانية التي تسوقه فيها مغتبطاً …

قال: متي لا أتذكر…وكأنما أخذتْ عليه مأخذاً…فيتماسك و يزيد: وسأحكيه لك مرَّات قادمة كلما اقتضي المقام.

إنها ليلة تحرير التقرير في كوالا لمبور ..ليلة الأرمني كما تقول… ولكن لا عليك ..

قل لي هذا الشاعر..لمْ يُقتل….؟ عجيب!! أَ لا يقتل في القانون الإلهي عندكم..”الشريعة” ونطقتها بالطريقة إياهم..

–       مالنا ولكل هذا ؟

–       نسيت ….زميلك وصديقك العجوز الدمشقي يشرب…

–       إنه يعوض وطنا وقدرات أنهكتها الأيام!!!

–       سأشي بك إليه…ألا ننام؟

وأفتح الدولاب لأخرج منه محفظة المعاطف وبها عدة السفر… وتبحلق في وجهي..

–       ماذا ؟…أتعني السفر بجـــد …يعني..

–     و اتصل هاتفيا بموظف الاستقبال:  إدغار…لوسمحت تاكسي لمطار” أورلي”..

ثم ننزل بسرعة إلي المصعد و هي تقول: نومة عميقة في هذا الفندق الظريف تعوض كل التعب ..

و أقطع طريق الرجعة عليها متسائلاً : و ترجعين في كلامك؟

سندبادي الأنيق… بحركة  نسائية فرنسية عريقة تشبك ذراعيها  علي رقبتي و تتعلق…لا  لا أتراجع..!

بالباب تلتصق التاكسي البيضاء لتخفف علينا وطأة برد المسافة و تنطلق إلي المطار……..

     -هي الطائرة..إذاً..؟؟

-بلي ..تم الحجز.. والدمشقي العجوز ،إن تـَرَكَ منه العرق و المقبلات بقيةً ..سنجدُهُ أمامنا في المطار..

و تنكبُّ علي مابقي مني.. عرفاناً…فالحلبي العجوز يُبهجها كثيرا..من يوم “كان” الأول…

والحقيقة أن الفتي الحلبي يستأهل حديثاً عن سيرته قدرما نُغَطّي المسافةَالموصلة  إلي المطار:
إنه رجل سبعيني مُتْرَفٌ ككل اليساريين المشارقة كان سفيرا 
لبلاده في عدد من بلدان

ومنظمات العالم،و بعد التقاعد أصبح معارضا منضبطاً، يملك شقة فارهة بالمقاطعة الخامسة من باريس،

و له أسهم وحسابات توفير و ربــح ، و أصدقاء يفيضون إحسانا ليالي الأُنس.

أساس شهرته الشعر و الكتابة وهو فوق كل هذا عاشق متقاعد ،(بسبب نفاذ الوقود)

علي حدّ تعبيره الشهير..وهو من ظرفاء باريس المتفق علي خفة روحهم ولطافةمعشرهم.

عند الردهات المسقوفة العملاقة في موقف سيارات المطار …انتشيتُ فلا مظهر يثيرتأملي كحركة المغادرة

والوصول في المحطات الدولية ، إنها تثيرني  في أبعادها الإنسانية :أتخيلُ شوقَ ذاك المسافر إلي من

 غادرهم.. ولهفة هذا علي من يقصدهم.. ولكنني أمقتُ محطات الوصول عندما تكون نهاية

رحلة.. وبعد الذبول و الركون إلي مشروع النوم في الفندق،سرتْ العدوي إلي”كاترين” فغردتْ بضحكاتها و

أسئلتها التي تحررت من التحفظ و الإلتزام،و ركبَتْها مُتعةُ المغامرة وارتياد المجهول، وكأنها

حمامة بيضاء ترفرف في سماء المطار المبلل بالرذاذ …تسلب ما بقي من حكمة تجنب

“ماحي” الإنزلاق علي حواف الرصيف الأملس.

أمام مسطبة طيران إيبيريا و حسناواته السمر الأندلسيات اللواتي تتخيل أنهن ستنادينك: “ماحي” مرحبا يا ابن العم..

و لكن الإنجليزية باللكنة الإسبانية تنهي كل احتمال لتعريب الحديث…وتعود بك ألف سنة إلي “محاكم التفتيش”

-هيييييي ” ماحي”… أنا هنا ..لا مُتعة بدوني… إنه الحلبي الجميل يحمل حقيبتين: إحداها تثقل كاهله، و الأصلية

مليئة بمشكَّلات من اللحوم والخمور و اشياء لا يعرفها إلاهُو ..                                                                   

تبادرهُ البارونة مقبلةً وجنتين نسيَّتا ذاك منذ عهود متطاولة… لكنه يُبعدها بلطف..و يقول :هذه القُبــلُ البريئةُ

لا يتحملها أجلاف الصحراء ،إن فحولتَهُم إِبِـليــة…وضحكنا و المضيفات كذالك ،لأن الحديث مفرنسٌ والدمشقي ثَمِل..

-سيدي ،ماحي ،حجزك مضبوط ولكن المتبقي لدينا رحلة” باص “:طائرة كلها درجة سياحية…

-المهم هو مغادرة باريس.. ردّ  “ماحي”

مخاطبة الحلبي :يا شاعر دمشق المفاجأة هي مدريد…قالت النبيلة… قلت انظري الشاشة …بل إنها برشلونه…

ويتمكن الطوق من رقبتي ولهذا أُعِدَّت الرقابُ أصْلاً..وقالت :لم أزرها من قبل ولكن يقال إنها عاصمة إقليم شبه

مستقل وإنها بديعة..

-آنستي هذه أرض أجدادي استولي عليها ملوك قشتالة…وترسل يدها إلي فمي وتكممه..برائحة  ” بولجاري “…يا

حلبي نتعاهد أن نقضي أيامنا بلا تاريخ ولا سياسة  من يوافق يرفع يده.. وأخذت يدي ورفعتها مع يدها ويديْ العجوز…

وهتفت فُزْنا  بالأغلبية عليه يا حلبي!

ويبدأ نداء البوابة… و صعدنا إلي متن الطائرة.. إقلاع رائع.. مع دموع باريس المنهمرة، ربما، حزنا علي مغادرتنا بلاد

“الغولوا” إلي بلاد” السراجين..

غفوة ، ومقبلات وشاي وقهوة لقهر سلطان النعاس الذي يعاملني بخدر متواصل المفعول…

ولكن الشمس وهي تتسلل عن يساري ذكرتني ببلاد الرؤية الواضحة و الرؤي الغبشية

فلم أعرف إلي أيهما أشتاق؟..

وتحني البوينج737 رأسها بأدب جم لتهبط في مطار برشلونة….مدينة بابلو بيكاسو.. 

 والميناء القديم وسحر الليالي و فظاعة الذكريات وحلاوة الحاضر…ونخرج بسرعة من

المطار إلي مدينة الشمس، وكمن يريد التخلص من نفسه المتعبة أنهينا التسجيل تاركين

 الوثائق عند الإستقبال.. وكما يتوسل الغريق قشة يمسك بها .. احتللت الغرفة17 من

فندق”لا باز”وفي سابع نومة دون تدرج…رُحتُ..

أتلمس ما حولي في ظلام دامس .. وأتـساءل  :إنقطاع كهرباء في برشلونه كما في

بانجول؟وأري في الحندس بؤرة نور خضراء..أخوض سباحة إليها لأتلمس …فإذا هي

مفتاح”المرناة” أو التلفزة.

يا سيد الكهف أين الثلاثة ؟ و رابعهم  الذي بقي في “كان.”..!!

                 ****____________________****

الرجاء الاتصال بنا لحجز هذه المساحة للإعلانات

شاهد مواضيع أخرى لـ

التعليقات مغلقة.