جديد الموقع : موجز عن صاحب الموقع  «»   عدنا…و العود أحمد  «»   مهمة في الاطلس المتوسط  «»   معادن الأرواح  «»   البطن الرخو..  «»   خطيئة النون  «»   كتمان  «»   أشواق شامية  «»   الكتاب  «»   شكوى  «»   المزامير  «»   وشاح  «»   حكايا العشيات3 (الجَّبَّابْ)  «»   حكايا العشيات2  «»   حكايا العشيات1  «»   ما لي بمدح المحدَثين يدان  «»   نكزة و تدوينة  «»   ناجي و نخبة موريتانيا و الضاد في صالون الولى  «»   حق الإقامة  «»   أنتِ والزنابق  «»   De La Chaudière  «»   الخطيئة  «»   رشة عطر  «»   إنهم قيادة العالم ولكنهم لا يستحقونها  «»   بيان من جمعية الضاد  «»   نحن و الزمن  «»   بيان عن اليوم العالمي للعربية  «»   بيان حول اليوم العالمي للعربية  «»   الصمت خيانة  «»   قنينة نفد الراح من خصرها  «»  

سبتمبر 12
0

 

لن أطيل الحديث عن المعارضة الشعرية فى بلادنا عند الشعراء المعاصرين… لذلك سأكتفي باستعراض نموذج شعري واحد أرى أن من شأنه أن يسلط الضوء بشكل كاف على ما نسعى إلى إبرازه من تفوق للشاعر الشنقيطي المثقف الملتزم بقضايا الأمة، والمؤتمن على رسالة الأدب والعلم والشعر والفن… وإنما قصدت إلى تلك القيود قصدا لأن من لا تتوافر فيه تلك الصفات والخصائص لن يكون الحديث عنه فى مقام الجد ــ كهذا المقام ــ ذا أهمية تذكر…رخام وخضر

وسيعيدنا هذا النموذج الذي أقترحه إلى أجواء مديح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ومعارضات الشعراء لميمية البوصيري رحمه الله، تنافسا فى عمل الخير، ومسارعة إلى رضا الله، وسعيا إلى مثوبته وغفرانه…

وشي البردة: قصيدة للشاعر الكبير ناجي محمد الإمام رأت النور فى خواتيم شهر رمضان المنصرم، عارض بها الشاعر ــ على ما دَرَج عليه الشعراء ــ قصيدة البردة.

 

وصف القصيدة:

من حيث الشكل:

القصيدة ميمية من الشعر العمودي جاء وزنها على البحر البسيط، لأنه بحر القصيدة الأم. عَروض القصيدة كلها مخْبونة (فعلُن)، وجاء ضربها كذلك مخبونا سالما من القطع. تقع القصيدة ــ حسب نصها المنشور فى موقع الشاعر ــ فى أربعة وثمانين بيتا… بدأ ت ــ كما أُلف فى شعر القافية ــ بمطلع مصرّع ، وأتبعه الشاعر ببيتين مصرعين آخرين، فكانت ذات مطالع ثلاثة، وهو أمر نادر الحدوث… أكان الشاعر يستعرض مهارته اللغوية والأدبية؟ أم أن جلال الممدوح وشرف الغرض يدغدغان كنانة الشاعر لتنثر أسهمها تباعا، ولتتحول الكنانة فاعليةً إلى مدفع رشاش؟.

 

واحتوت القصيدة بعض المحسنات اللفظية كالجناس:

أعيت طلاوته بزت طراوته شلت بلاغته ذا اللسن والقلم

 من فتق رتق النوى للمجتبى رتقت والكون فى ظلل طورا وفى ظلم

 

 وكالترصيع:

الفرع ذو حلك والقد ذو فلك والوصل ذو شرك والثغر ذو شبم

 

 ويشكل الترصيع ظاهرة لافتة على مدار القصيدة كلها، وهو ما يشير إلى ضخامة الثروة اللغوية عند الشاعر وإلى حسه الموسيقي المرهف من جهة، ويمنح القصيدة برمتها إيقاعا مميزا وحركية رشيقة من جهة أخرى.

 

من حيث المضمون:

غرض القصيدة أحد أشرف أغراض القصيد وهو مدح النبي عليه الصلاة والسلام. ولكن الشاعر ــ عن وعي وقصد ــ ما أراد الخروج عن مواضعات شعراء المديح الذين اعتبروا المقدمة الطللية على مرالعصور قيمة فنية وأدبية، قلما يتنكر لها شاعر من الشعراء.. ولعل السبب فى ذلك تأسيهم بقصيدة كعب بن زهير (بانت سعاد) والتى بموجبها خلع المصطفى عليه بردته، تلك البردة التى كانت وراء تسمية البوصيري قصدته الميمية عليها…. فبدأ الشاعر هو الآخر قصيدته بمقدمة طللية حيث قال:

 

قرب الأضاتين فى ظل الغضا العرم ما بين غضر النقا والسرو والعنم

 كالسهم كالوهم كالوسمي كالسلم كالنار كالنور كالإعصار كالنسم

 كالبرق أومض فى إغفاءة الحلم كالحرف ينثال بين الحبر والقلم

 الفرع ذو حلك والقد ذو فلك والوصل ذو شرك والثغر ذو شبم

 كالعمر فى سرَب والناي فى طرب والظل فى هرب والبين فى ألم

 

 أخذت المقدمة الطللية من حيّز القصيدة ستة عشر بيتا، ثم جاء التخلص من الغزل إلى المديح، غرضِ القصيدة الأساس، كأحسن وأروع ما يكون، فقد جاء متساوقا منسابا، غير منبت ولا مقطوع، يسلمك بمنتهى الرفق والسلاسة من الغزل إلى المديح:

 

يا ربة الحسن والأيام هالكة والعمر يقطر فى قارورة العدم

 اقني حياءك بنت الروم واعتمري بالنور واحسي جميم السر فى الختَم

 أقول والقول منسوب لقائله والفعل أبلغ من ومء ومن كلم

 يا خيبة الشعر والإبداع أجمعه والريشة البكر والتوشيح والرقم

 ما لم يهم ولها ولم يذب بدها فى حب خير الورى فى البدء والختم

 

 ثم يتمحض باقى القصيدة وهو ما يربو على ستين بيتا لغرضها الأساس وهو مدح النبي صلى الله عليه وسلم.

 

القصيدة: محاولة استنطاق.

خلت المقدمة الطللية للقصيدة من ذكر الحبيب، واقتصرت على ذكر المنزل والمعهد، راسمة حدوده، ناعتة شكله وصورته، مستخدمة أدوات الظرف (قرب.. ما بين) كما طغا التشبيه فى نعت السكن أو الساكن، لا فرق، فــ …ماحب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

 فلئن كان الشاعر تجنب ذكر الحبيب بالاسم فما اسطاع تجنبه بالرسم، لذلك ما لبث أن أطلق العنان لعين مجهره يسرح فى المحبوب صعودا وهبوطا بين معنوي الوصف وحسيه، يلتقط الصورة كاملة، ثم يعمد إلى زوايا محددة فيركز عليها تركيزا… ولأن المجهر آلة محايدة بالطبع فما أحسب إلا أن سبْقَ إصرار من الشاعر كان لا محالة وراء ذلك:

 

الفرع ذو حلك والقد ذو فلك والوصل ذو شرك والثغر ذو شبم

 كالعمر فى سرب والناي فى طرب والظل فى هرب والبين فى ألم

 

 ولربما كان الشاعر ــ وهو الذى أُشربت رومانسيته بغير قليل من الواقعية ــ رغم عزوفه عن ذكر المحبوب أبى إلا أن يقول إنه ما ذكر الأضاتين إلا لما فى زلالهما وعذوبة مائهما من شبَه بثغر المحبوب، وأنه ما استحضر الغضى إلا لأن صاحب القد الجميل تفيأه ذات غدوة، ونسائم الصباح تعبث بذوائب شعره الفاحم الفارع… وستسحرك ــ لا ريب ــ تلك التشبيهات: (كالعمر فى سرب…) لما تختزل من ظلال وما تحمل من جدة وما ترسم من رسوم تعتوِر النفس وتتنازع مشاعر الإنسان…

 

ويدلف الشاعر بعد تلك المقدمة إلى بيت القصيد، مدح النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم:

 

أعجوبة الخلق عين الحق بؤبؤه فيض السماحة سر الحتم والحتم

 محمد نفحة الحظ التى انبجست نضاخة بزلال العدل والحكم

 

 وهنا نلاحظ أن الشاعر لم يخرج فى صورته الشعرية فى تشبيهه واستعارته عن الموروث الكلاسيكي لبيت المديح، ولكننا نجده فى البيت الموالي يرفع لواء التجديد فى المفاهيم والرموز حين يقول:

 

محمد ثورة المغبون معتقه معلى النفوس ببر الجار والرحم

 

 وتبدأ وتيرة التجديد فى المفاهيم والتعبير فى التصاعد حتى تبلغ مداها حين يقول الشاعر:

 

أنعم بها ثورة بالعلم قائدة بالوحي رائدة التدبير والحكم

 أكرم بها دولة بالعدل خالدة بالرأي والفكر والتعليل والهمم

 ثم يقول:

 

إن كان من فجروا الثورات قد عتقوا بعض الشعوب فكم أعتقت من أمم

 بادت مبادئهم حادت مقاصدهم ودين ربك لم يهجع ولم ينم

 عنك الشرائع والثورات قد أخذت حق الأجير وحق الجار والخدم

 

 فمفاهيم الثورة والدولة والرأي والفكر والتعليل بما تومئ إليه من المعاصرة، وما يحمل بعضها من شحنات فكرية حديثة، كلها كما نرى مفاهيم جديدة على غرض المديح النبوي، فهي استثمار لغرض قديم لإسقاط الواقع عليه، وذلك ما تهمنا الإشارة إليه. فالمعارضة وإن بانَ اختلافها عن السرقات الشعرية لكونها أمر مقصود لذاته فإنها مغايرة كذلك لاستنساخ الفكرة وتكرار الصورة، إذ هي بذلك تستحيل سلخا رديئا، وإعادة إخراج شوهاء لما أنتجه الغير.

ومثل هذا التجديد فى المفاهيم والألفاظ نجده عند الشاعر حتى وهو يرفع يديه ضارعا بالدعاء إلي الله، حيث تطفو هموم الأمة وإكراهات الواقع مرة أخرى على المعجم الذهني واللغوي للشاعر، فانظر إليه وهو يبث رسول الله حال أمته، وكيف آلت وحدتها إلى فرقة وتمزق واستحالت قوتها ضعفا وهوانا، وانقلب غناها إلى فقر وفاقة:

 

يا سيدي يا رسولُ، اشفع لزلتنا عند الحليم وثبتنا على الأمَم

 والحق بهمتك القعساء أمتنا فقد تداعت عليها سائر الأمم

 تفرقت شيعا واستمرأت بدعا فقطعت مُزَعا كالكاسر الهرم

 واحم العروبة بالإيمان واحم بها راياتك الخضر فى الآجام والأطم

 واربط بعروتك الوثقى بني وطني واكلأهمُ بوفير الأمن والنعم

 واسبغ على أمة الإسلام قاطبة من المهابة درعا غير منثلم

 

 ثم يعرج فى ابتهاله على الواقع الاقتصادي للأمة والتفاوت الطبقي بين أفرادها وانعدام العدالة الاجتماعية، وعلى المسجد الأقصى وتخاذل الأمة فى سبيل تحريره… وهي كلها مستجدات تؤكد ما ذهبنا إليه من كون الشاعر لم تكن المعارضة الشعرية لتلهيه عن الهمِّ المجتمعي الذى يحمله، ولم ينسه جلال الممدوح عن إيصال رسالة أمته إليه…

والحديث عن زوايا القصيدة بالتفصيل غير موات لمثل هذا المقام، وإنما أردت إلقاء نظرة موجزة علها تثير نهم بعض الدارسين إلى الموضوع…

ولنا إلى حديثنا عودة …

 

 

 

 

 

لن أطيل الحديث ــ كما وعدتك ــ عن المعارضة الشعرية فى بلادنا عند الشعراء المعاصرين… لذلك سأكتفي باستعراض نموذج شعري واحد أرى أن من شأنه أن يسلط الضوء بشكل كاف على ما نسعى إلى إبرازه من تفوق للشاعر الشنقيطي المثقف الملتزم بقضايا الأمة، والمؤتمن على رسالة الأدب والعلم والشعر والفن… وإنما قصدت إلى تلك القيود قصدا لأن من لا تتوافر فيه تلك الصفات والخصائص لن يكون الحديث عنه فى مقام الجد ــ كهذا المقام ــ ذا أهمية تذكر…

وسيعيدنا هذا النموذج الذي أقترحه إلى أجواء مديح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ومعارضات الشعراء لميمية البوصيري رحمه الله، تنافسا فى عمل الخير، ومسارعة إلى رضا الله، وسعيا إلى مثوبته وغفرانه…

وشي البردة: قصيدة للشاعر الكبير ناجي محمد الإمام رأت النور فى خواتيم شهر رمضان المنصرم، عارض بها الشاعر ــ على ما دَرَج عليه الشعراء ــ قصيدة البردة.

 

وصف القصيدة:

من حيث الشكل:

القصيدة ميمية من الشعر العمودي جاء وزنها على البحر البسيط، لأنه بحر القصيدة الأم. عَروض القصيدة كلها مخْبونة (فعلُن)، وجاء ضربها كذلك مخبونا سالما من القطع. تقع القصيدة ــ حسب نصها المنشور فى موقع الشاعر ــ فى أربعة وثمانين بيتا… بدأ ت ــ كما أُلف فى شعر القافية ــ بمطلع مصرّع ، وأتبعه الشاعر ببيتين مصرعين آخرين، فكانت ذات مطالع ثلاثة، وهو أمر نادر الحدوث… أكان الشاعر يستعرض مهارته اللغوية والأدبية؟ أم أن جلال الممدوح وشرف الغرض يدغدغان كنانة الشاعر لتنثر أسهمها تباعا، ولتتحول الكنانة فاعليةً إلى مدفع رشاش؟.

 

واحتوت القصيدة بعض المحسنات اللفظية كالجناس:

أعيت طلاوته بزت طراوته شلت بلاغته ذا اللسن والقلم

 من فتق رتق النوى للمجتبى رتقت والكون فى ظلل طورا وفى ظلم

 

 وكالترصيع:

الفرع ذو حلك والقد ذو فلك والوصل ذو شرك والثغر ذو شبم

 

 ويشكل الترصيع ظاهرة لافتة على مدار القصيدة كلها، وهو ما يشير إلى ضخامة الثروة اللغوية عند الشاعر وإلى حسه الموسيقي المرهف من جهة، ويمنح القصيدة برمتها إيقاعا مميزا وحركية رشيقة من جهة أخرى.

 

من حيث المضمون:

غرض القصيدة أحد أشرف أغراض القصيد وهو مدح النبي عليه الصلاة والسلام. ولكن الشاعر ــ عن وعي وقصد ــ ما أراد الخروج عن مواضعات شعراء المديح الذين اعتبروا المقدمة الطللية على مرالعصور قيمة فنية وأدبية، قلما يتنكر لها شاعر من الشعراء.. ولعل السبب فى ذلك تأسيهم بقصيدة كعب بن زهير (بانت سعاد) والتى بموجبها خلع المصطفى عليه بردته، تلك البردة التى كانت وراء تسمية البوصيري قصدته الميمية عليها…. فبدأ الشاعر هو الآخر قصيدته بمقدمة طللية حيث قال:

 

قرب الأضاتين فى ظل الغضا العرم ما بين غضر النقا والسرو والعنم

 كالسهم كالوهم كالوسمي كالسلم كالنار كالنور كالإعصار كالنسم

 كالبرق أومض فى إغفاءة الحلم كالحرف ينثال بين الحبر والقلم

 الفرع ذو حلك والقد ذو فلك والوصل ذو شرك والثغر ذو شبم

 كالعمر فى سرَب والناي فى طرب والظل فى هرب والبين فى ألم

 

 أخذت المقدمة الطللية من حيّز القصيدة ستة عشر بيتا، ثم جاء التخلص من الغزل إلى المديح، غرضِ القصيدة الأساس، كأحسن وأروع ما يكون، فقد جاء متساوقا منسابا، غير منبت ولا مقطوع، يسلمك بمنتهى الرفق والسلاسة من الغزل إلى المديح:

 

يا ربة الحسن والأيام هالكة والعمر يقطر فى قارورة العدم

 اقني حياءك بنت الروم واعتمري بالنور واحسي جميم السر فى الختَم

 أقول والقول منسوب لقائله والفعل أبلغ من ومء ومن كلم

 يا خيبة الشعر والإبداع أجمعه والريشة البكر والتوشيح والرقم

 ما لم يهم ولها ولم يذب بدها فى حب خير الورى فى البدء والختم

 

 ثم يتمحض باقى القصيدة وهو ما يربو على ستين بيتا لغرضها الأساس وهو مدح النبي صلى الله عليه وسلم.

 

القصيدة: محاولة استنطاق.

خلت المقدمة الطللية للقصيدة من ذكر الحبيب، واقتصرت على ذكر المنزل والمعهد، راسمة حدوده، ناعتة شكله وصورته، مستخدمة أدوات الظرف (قرب.. ما بين) كما طغا التشبيه فى نعت السكن أو الساكن، لا فرق، فــ …ماحب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

 فلئن كان الشاعر تجنب ذكر الحبيب بالاسم فما اسطاع تجنبه بالرسم، لذلك ما لبث أن أطلق العنان لعين مجهره يسرح فى المحبوب صعودا وهبوطا بين معنوي الوصف وحسيه، يلتقط الصورة كاملة، ثم يعمد إلى زوايا محددة فيركز عليها تركيزا… ولأن المجهر آلة محايدة بالطبع فما أحسب إلا أن سبْقَ إصرار من الشاعر كان لا محالة وراء ذلك:

 

الفرع ذو حلك والقد ذو فلك والوصل ذو شرك والثغر ذو شبم

 كالعمر فى سرب والناي فى طرب والظل فى هرب والبين فى ألم

 

 ولربما كان الشاعر ــ وهو الذى أُشربت رومانسيته بغير قليل من الواقعية ــ رغم عزوفه عن ذكر المحبوب أبى إلا أن يقول إنه ما ذكر الأضاتين إلا لما فى زلالهما وعذوبة مائهما من شبَه بثغر المحبوب، وأنه ما استحضر الغضى إلا لأن صاحب القد الجميل تفيأه ذات غدوة، ونسائم الصباح تعبث بذوائب شعره الفاحم الفارع… وستسحرك ــ لا ريب ــ تلك التشبيهات: (كالعمر فى سرب…) لما تختزل من ظلال وما تحمل من جدة وما ترسم من رسوم تعتوِر النفس وتتنازع مشاعر الإنسان…

 

ويدلف الشاعر بعد تلك المقدمة إلى بيت القصيد، مدح النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم:

 

أعجوبة الخلق عين الحق بؤبؤه فيض السماحة سر الحتم والحتم

 محمد نفحة الحظ التى انبجست نضاخة بزلال العدل والحكم

 

 وهنا نلاحظ أن الشاعر لم يخرج فى صورته الشعرية فى تشبيهه واستعارته عن الموروث الكلاسيكي لبيت المديح، ولكننا نجده فى البيت الموالي يرفع لواء التجديد فى المفاهيم والرموز حين يقول:

 

محمد ثورة المغبون معتقه معلى النفوس ببر الجار والرحم

 

 وتبدأ وتيرة التجديد فى المفاهيم والتعبير فى التصاعد حتى تبلغ مداها حين يقول الشاعر:

 

أنعم بها ثورة بالعلم قائدة بالوحي رائدة التدبير والحكم

 أكرم بها دولة بالعدل خالدة بالرأي والفكر والتعليل والهمم

 ثم يقول:

 

إن كان من فجروا الثورات قد عتقوا بعض الشعوب فكم أعتقت من أمم

 بادت مبادئهم حادت مقاصدهم ودين ربك لم يهجع ولم ينم

 عنك الشرائع والثورات قد أخذت حق الأجير وحق الجار والخدم

 

 فمفاهيم الثورة والدولة والرأي والفكر والتعليل بما تومئ إليه من المعاصرة، وما يحمل بعضها من شحنات فكرية حديثة، كلها كما نرى مفاهيم جديدة على غرض المديح النبوي، فهي استثمار لغرض قديم لإسقاط الواقع عليه، وذلك ما تهمنا الإشارة إليه. فالمعارضة وإن بانَ اختلافها عن السرقات الشعرية لكونها أمر مقصود لذاته فإنها مغايرة كذلك لاستنساخ الفكرة وتكرار الصورة، إذ هي بذلك تستحيل سلخا رديئا، وإعادة إخراج شوهاء لما أنتجه الغير.

ومثل هذا التجديد فى المفاهيم والألفاظ نجده عند الشاعر حتى وهو يرفع يديه ضارعا بالدعاء إلي الله، حيث تطفو هموم الأمة وإكراهات الواقع مرة أخرى على المعجم الذهني واللغوي للشاعر، فانظر إليه وهو يبث رسول الله حال أمته، وكيف آلت وحدتها إلى فرقة وتمزق واستحالت قوتها ضعفا وهوانا، وانقلب غناها إلى فقر وفاقة:

 

يا سيدي يا رسولُ، اشفع لزلتنا عند الحليم وثبتنا على الأمَم

 والحق بهمتك القعساء أمتنا فقد تداعت عليها سائر الأمم

 تفرقت شيعا واستمرأت بدعا فقطعت مُزَعا كالكاسر الهرم

 واحم العروبة بالإيمان واحم بها راياتك الخضر فى الآجام والأطم

 واربط بعروتك الوثقى بني وطني واكلأهمُ بوفير الأمن والنعم

 واسبغ على أمة الإسلام قاطبة من المهابة درعا غير منثلم

 

 ثم يعرج فى ابتهاله على الواقع الاقتصادي للأمة والتفاوت الطبقي بين أفرادها وانعدام العدالة الاجتماعية، وعلى المسجد الأقصى وتخاذل الأمة فى سبيل تحريره… وهي كلها مستجدات تؤكد ما ذهبنا إليه من كون الشاعر لم تكن المعارضة الشعرية لتلهيه عن الهمِّ المجتمعي الذى يحمله، ولم ينسه جلال الممدوح عن إيصال رسالة أمته إليه…

والحديث عن زوايا القصيدة بالتفصيل غير موات لمثل هذا المقام، وإنما أردت إلقاء نظرة موجزة علها تثير نهم بعض الدارسين إلى الموضوع…

ولنا إلى حديثنا عودة …

 

 

 

 

 

الرجاء الاتصال بنا لحجز هذه المساحة للإعلانات

شاهد مواضيع أخرى لـ

التعليقات مغلقة.